تلك سدرة منتهاى .... عمرى ومضة فيك


Sunday, September 5, 2021

مكاشفة أولى عن رواية أنا ذئب كان

 




 

كلما قلت " كان يا ما كان " استحلت إلى ذئب، أكل الحكايات القديمة وأعاد إنتاجها مرة أخرى. فكما أنك لا تستطيع أن تشرب من نفس النهر مرتين؛ فأنت لا تستطيع حكاية حكايتين متطابقتين، فالحكاية كالنهر الجاري والأحداث والتاريخ كنهر صاخب من الأحداث أنت لا ترويه بل تحاول أن توقف جريانه لكي يستقيم لك حكايته، إنها قصة عن الرواية نفسها حكاية الحكاية، عن حكاية التاريخ و الأساطير حكاية الناس والجغرافيا والسواحل طبعا، حكاياتنا الشخصية، الحكاية التي كلما حكتيها دخلت أنت وهي في تخليق متبادل هي تخلقك كما تخلقها هي تضيف إليك كما أنت تضيف لها ، في الحقيقة لست أدري أكانت "أنا ذئب كان" روايتين أم ثلاثة أم أنها رواية واحدة، لكنى أعرف أنها تمثيل سردي حكائي لتلك الأفكار قد تكون تمثلا عربيا للتاريخانية الجديدة عند  ستيفن جرينبلات التي ظهرت في الولايات المتحدة 1990 وقد تكون شيئا آخر يدفع بنسبية التاريخ. في الحقيقة لا أعلم وعلى القراء أن يبحثوا معي عن هذا الجسد السردي الذي ولدته في رحلة مخاض دامت لسبع سنوات. فقد بدأت في الكتابة حين قررت أن أبدأ ثورتي أنا، وحدي دون أعلام وميادين وأن أصغي لصخبي الداخلي، فصخب الخارج لم يرض طموحي فقررت أن أكون أنا الصخب أنا الذئب الذي يروي معي حكاية الحكاية بطريقة الهضم وإعادة الإنتاج وبطريقة الهدم والبناء أيضا ربما حين أدركت أنني بحاجة لثورة معرفية وظللت أصارع أمواجها حتى أنهيت هذه الرحلة في 2018. هي بالحقيقة رحلة أخذت ساحل الغواية ساحل الغردقة لمجال أوسع امتد على الساحل حتى شبه جزيرة جوادر آخر حدود العرب البحرية، وان كانت تقع جوادر الآن في باكستان لكنها كانت حتى 1958 تابعة لسلطنة عمان ومازال يقطنها عرب، لكن الرحلة بدأت من سواحل الغردقة إلى كل شطوط البحر الأحمر وخرجت منه من مضيق باب المندب وتوقفت عند جزيرة سوقطرة اليمنية تلك الجزيرة الفريدة حتى وصلت جوادر العربية ثم عادت أدراجها لتحكي لنا حكاية أخرى.

حكاية أخرى من حكايات ذئب الحكايات ولتكون الحلقة الثانية بعد ساحل الغواية في ثلاثية الغردقة.

محمد رفيع 

Thursday, April 18, 2019

فصل من رواية "أنا ذئب كان"


زغرودة له - فصل من رواية "أنا ذئب كان" 

ماتت مدينة كما يموت الميتون، لا ليس كما يموت الميتون، ماتت موتَها الخاص، فالموت كالبصمة لا يتكرر، لكننا لا نلحظ ذلك إلا حين نعبر للضفة الأخرى، أصابها هزال مفاجئ، وعافت الطعام، وأتعبت سلمى في إطعامها مثل طفل فطَمَته أمّه. والعجيب أنها لم تسترح إلا للبن الماعز؛ تزدرِده كالرضيع، وتفتح عينيها مستمتِعة به. ظلت على حالها قرابةَ الشهر ثم ذهبت إلى هناك. وفي هذا الشهر الذي سبق موتَها، كانت تتعلق عيناها بالسماء، وتبدو مسحورة لا تنبس بكلمة لساعات طوال، وأحيانًا يذهب سواد عينيها ويترك العين بيضاء تمامًا، ثم تغمض جفنيها وتفتحهما لترى سلمى الحدقةَ وقد عادت بعد غيابها المخيف. ولم يكن غياب الحدقة هو أغرب ما تُحيك به موتها، فللهذيان والصوت نصيبٌ كبير. قالت ذات يوم وسلمى تحلب المعزة كي ترضعها، إن ملك الموت زارها، وحين سألته: ليش جيت؟ قال جئت لأراكِ وأعاين حالتك، وأذهب مِن حيث أتيت. قلت: متى هتجيني المرة هادي؟ فلم يتكلم فجذبته من أذُنِه وشمّمتها وعرَفت سِره الذي يخفيه، وقلت له قبل أن يرحل: واللهِ لألاقيك بالزغاريد.
لم تصدق سلمى أيًا من هذه الأحاديث الأخيرة لها، وكم صدقتها وآمنت بكل ما تقول فيما مضى، لكنها تعرف أنها الآن تهذي هذيانًا يليق بحياتها الصاخبة. فهي التي حاكت كثيرًا من الأساطير؛ وهي التي أقنعت الرجالَ بالحمل الراكد؛ نعم هي تلك المرأة الضعيفة التي أبقت سلمى على قيد الحياة، وغيّرت الساحل كله بكلامها المعسول وحكاياتِها الساحرة، هي الآن تموت موتَها الخاص تحيكه كآخر أساطيرها.
دخلتْ عليها سلمى في يوم من أيامها الأخيرة؛ فطلبت مدينة منها الاقتراب، وحين اقتربت سلمى رفعت ثوبها وعرّت لحمها، وقالت انظري؛ رحِمي يهجرني. نظرت سلمى بخوف فوجدت جزءًا من رحِمها يَخرج من محاشمها مخضبًا بالدم. تألمت مدينة وسلمى، ولا ندري أي الألميْن أمضى؛ في ذلك الليل البهيم الذي حاطَ كل شيء. شهقت سلمى وانفجرت باكية لمّا رأت الرحم، وأحست بهزةٍ عنيفة في أعماقها، وأحست بألمٍ في حوضها، كأن رحِمَها هي يبكي على الرحم المدْمَى. وشعرت به يحرقها وكأنما شبّت فيه النار. لم تنم سلمى ليلتَها رغم أن مدينة نفسها نامت مطمئنة لوجودِها بجانبها، أخذت تتأوه ثم نامت في حضن سلمى كالطفل، حاولت سلمى أن تصطاد النوم، لكنه فر منها، ووقفت صورة الرحم المسربل بالدماء حائلا بينها وبين النعاس. أدركت سلمى في ليلتها تلك أن هذيان مدينة لم يكن عبثا، وأنها حتمًا ستموت بعد وقتٍ قصير، وفكرت كيف توقف عربة الموت وتنجو بها؟ وهي التي نجت بها وأبقتها على قيد الحياة هي ووليدها. فلولاها لمات الطفل جوعًا، أو تزوجت سلمى من رَجل، وما يدريها كيف كان سيعامل سالمًا؟ مدينة لا تذهبي، ابتلعي رحمكِ المدلّى، ابلعيه، أرجعيه داخلك وابقي لأجلي، لأجل الساحل كله، لكن عجلة الموت لا تقف، لا تسمع الأنّات، لا تبطئ الخطى، لا تخطئ الهدف، عجلات الموت صمّاء، وعمياء، وغبية.
في أيامِها الأخيرة تصحو مدينة من نومِها، وحين تدرك أنها على قيد الحياة، وأن الموت لم يأتِ، تصرخ فيه وتنعته بالجبان، وتشتمه لأنه لم يأتِ ليخلّصها من عذابها، ومن ملالة العيش، ولا تهدأ إلا حين ترميه بالصحون الفارغة التي باتت بجانبها، وفي الليل تمتلئ تلك الصحون بصراخها وعويلها وتكبيراتها، كأن شريط الصوت الذي صاحبَ حياتها يزورها في مناماتها، فمرةً تنادي أباها، ومرةً تكبّر تكبيرات الإحرام، وأحيانًا تعوي كَكَلبةٍ جُرِحت، أو تصرخ صراخَ أوزِّ البحر حين يتجمع على وليمةٍ من الأسماك. وأغرب هذه الأيام وأكثرها فزعًا، ذلك اليوم الذي كانت سلمى تحلب معزتها، وهي نائمة على فرشها، فجلست وكأنها مسحورة بين الصحو والنوم، وغيّرت من نبرة صوتها وتكلمت بلسان جِنية البحر وقالت: آه يا ابن آدم، يا ذا الجلد الناعم والمشاعر المتأججة، تاللهِ لأرشفن من سوائلك الجنة رشفًا، من رضابك وماء عينيك، ومن عسل الحياة الذي يتفجر من عامود نارك. تركت زوجي الغبي يغويك بالشرور لينتقم منك، علّه يرجع لجنتِه الأولى، وتفرغتُ أنا لك لأني الأذكى، فالجنة أرشفها الآن بلساني وغاوياتي، وآخذ من العمر ما شئتُ وما طاب لي. ولن أنتظر نهاية الزمان لأدخل الجنة أو السعير، ولا لكي أدخل سجالا مع أحد. الجنة هنا بين فخذيك، وحول لسانك، وفي شبابك.
آه يا بنت حواء التي تنتظر لتأخذ الفتات الذي يسقط من مائدتي، لو صبرت على النار التي تشتعل على سواحل جسدك نجوت، وقذفت لك التفاحة كاملةً غير منقوصة ولا بها عطب، وأزلت من لحائها قضمتي المقدسة، لكن هيهات أن تصبري فقدْ رأيت الله يصنعكِ من ضلعٍ مقوسةٍ كقوس الغزاة، ومن رغبةٍ محمومة كالبراكين، ومن مكرٍ أعيا الناسَ والشياطين.
قالت مدينة ذلك ثم سَقطت دفعةً واحدة، حتى ظنت سلمى أنها ماتت، ففرحت أنها سكتت وحزنت أنها ماتت، وحين تمالكت أنفاسها اقتربت منها في فزعٍ بادٍ عليها، وقربت أذنَها من صدرها وهي تتوقع أن تنشب أظافرها فيها في أية لحظة، وحين لامست صدَرها أحست بأنفاسها تتردد فاطمأنت. لكنها لم تنم ليلتَها من الخوف، تمامًا كليلةِ الرحِم المدلّى. ظلت سلمى حتى شروق الشمس صاحيةً، وحين استيقظت مدينة من نومِها، بدت لا تذكر شيئًا مما حدث ليلة أمس، بل بدت وكأنها شُفِيت تمامًا، وكأن عافيتَها عادت لها، وعند الظهيرة أطلقت زغرودةً وماتت.


Sunday, January 22, 2017

كلمتي أمام لجنة تحكيم الملتقى القصة القصيرة








قال السيد "موباسان": "إن هناك لحظاتٍ عابرةً منفصلةٌ في الحياة، لا يَصلحُ لها إلا القصةُ القصيرة؛ لأنها عندما تصوِّرُ حَدَثًا مُعينًا لا يهتم الكاتبُ بما قَبلَه أو بما بَعدَه"

وأقول هُنَا حين خَرجَ إنسانُ الغابِ من الكهفِ وقَضَى يومَه في مطاردةِ الفرائسِ وعادَ خاليَ الكفيْنِ، كانت رأسُه مليئةً بالحكاياتِ التي حارَبَ بها - بعدَ رجوعِه من رحلتِه - انتظارَ الأطفالِ وضَجرَ الزوجةِ والجوعَ، حين ملأت الحكاياتُ فمَه واستساغَ طَعمَها شَعرَ بالامتلاءِ والالتئامِ، وحين نام الأطفالُ على وقْعِ حكاياتِه انقشَعَ عنه الحزنُ ومَلأته حكاياتُه بالأملِ وتَبَسَّمَ لزوجتِه حين نامت غيرَ حاقدةٍ عليه.

هذه قِصتُنا التي ما نزالُ نمارِسُها، لكنّ الكهفَ اختلَف، والحكايات صارت تأتينا مطبوعةً، وصِرنا نشتريها بالمالِ لحاجتِنا أن نعيشَ في حياةِ الآخرين . القصةُ هي التي تُثبِتُ لنا أن الخلودَ مُمكِنٌ، لكِنْ بطريقةٍ غيرِ التي فَهِمناه بها؛ فليس الخلودُ وَحدَه أن تَبقَى حياتُكَ ولا تنتهي، لكنك قد تَخلُدُ لو استطعتَ أن تعيشَ مائةَ أو ألفَ حياةٍ غيرِ حياتِك، وهذا ما تَفعلُه القصةُ بِنا ، هنا تَكمُنُ اللعبةُ باستعارةِ الحياواتِ .. فَحُبُّنا للقصةِ ما هو إلا حاجةٌ نفسيةٌ وبَيلوجية لتمثُّلِ الخلود، وحُبُّنا في حَكْي قصةٍ على أحدٍ هو رغبةٌ دفينةٌ لنجلسَ على جبلِ الأولمب ونروي قِصصًا لبشرٍ، ونرسُم أقدارَهم على الأرض، قولوا لي باللهِ عليكُم عن شئٍ اخترعناهُ في حياةِ الإنسانيةِ كلِّها مَنَحَنا الخلودَ واستعارَ لنا قدرةَ الإلهِ الذي حين نتمثلُه على الورقِ نعرِفُ قَدْرَه في الأعالي!!

أليس بهذا تكونُ القصةُ القصيرةُ أهمَّ اكتشافٍ أدبيٍ في العصرِ الحديث؟

إن كلَّ قصةٍ قصيرةٍ لا بُدّ أن تقدِّمَ رؤيةً ما للعالَمِ مِن خلالِ تَكثيفِ وتَقطيرِ لحظةٍ مُعينةٍ في حياةِ بَطَلِها أو أبطَالِها، وهذه اللحظةُ كاشِفةٌ لقطاعٍ زَمَنيٍ طولي في حياتِه يُكَثِّفُ أزمتَه وأفكارَه وخوالِجَه ودِرَامَا الحياةِ مِن حولِه في آنٍ، يا لَها مِن مَهَمةٍ صعبةٍ ومَريرةٍ، أن تلتَقِطَ أهمَّ لحظةٍ في حياةِ بَطَلِك، اللحظةُ التي يكتشِفُ فيها ذاتَه ويَختَبِرُ قناعاتِه ويَنقُلُ لنا رؤيتَكَ أنتَ عن الحياة.

لهذا فالقصةُ القصيرةُ فنٌّ كاشِفٌ لا يرتادُهُ مُدَّعون، وإنْ فَعَلوا فكشْفُ زَيْفِهم يكونُ بسهولةِ تَحريرِ قطعةِ شيكولاته مِن غُلافِها، وهذا ليسَ الحالَ في كثيرٍ مِن الأجناسِ الأُخرَى؛ فالقصةُ المُشوَّشةُ ليست بقصةٍ، ولا المُفَكَّكَةُ، ولا السطحيةُ بقصةٍ مِن الأساس، فإنْ كانَ ليسَ في بؤرةِ جَذوتِكَ العميقةِ شيءٌ كاشفٌ ضاربٌ بجذورِه في أرضٍ جديدةٍ فاهْجُرْ هذا الفنَّ لطرائِقَ أُخرَى غيرِها.

إنّ القاصَّ المبدِعَ – الجاد- هو وحدَه القادِرُ على تشكيلِ وصياغةِ هذه القيمةِ الإبداعيةِ المُهمةِ ليُعيدَ بلورةَ واكتشافَ مَنَاطقَ مُهمةٍ ربَّما تكونُ مُهمَلةً في ذواتِنا وفي حياتِنا الآنية. وهو أيضًا الذي يمتلِكُ الوعيَ الحادَّ بالتفردِ الإنساني، ومِن ثَمَّ التعبيرَ عَنه في قالَبٍ فنيٍّ قَصصي.

الإبداعُ عندَ الفنانِ أو الأديبِ في رأيي ليس اختيارًا؛ فهو قد يَختارُ ماذا يَكتبُ، أو أيَّ المَدارسِ يَتَّبِعُ، أو أيَّ التجَارِبَ يُجرِّبُ، لكنه لا يَختارُ فِعلَ الكتابةِ مِن عَدَمِه، فهو فِعلٌ قَصريٌّ حَميدٌ دوافعُه ذاتية، وهذا يُمثِّلُ بالنسبةِ لي بالضبطِ كالمرأةِ الحاملِ التي قد تَختارُ اسمَ مولودِها، أو ألوانَ ملابِسِه وغرفتَه وسريرَه، لكنها لا تَستطيعُ أن تَختارَ ألا تَلِدَ مُطلقًا، ولا أن تَحتفِظَ بالجَنينِ في أحشائِها مَدَى الحياة.

في بداياتي كنتُ أتساءَلُ السؤالَ الأبديَّ والتقليديَّ عن هل أنا موهوبٌ مِن الأساسِ أَم لا؟ وهل هذا المُعتَرَكُ الذي أنا بِصَددِه هو لي؟ وما هذه التراكيبُ اللغويةُ والرؤىَ والقصصُ التي تَصعدُ إلى رأسي؟ وما هذه الحالةُ مِنَ التوترِ المَحمومِ التي تُصيبُني؟ فكان أنْ قَرأتُ في عِلمِ نفْسِ الإبداع وأيقنت بعدَها أن العمليةَ الإبداعيةَ هي شئٌ يَعتمِلُ في الأعماق دونَ تَدَخُّلٍ مِنا، وأنها خاصةٌ بكيمياءِ المُخِّ، وأن خَللاً ما في الشعورِ والوجدانِ يولِّدُ تلك الطفرةَ التعبيريةَ، وما هي إلا بحثٌ دائِمٌ عن الاكتمالِ والتحقق، إذًا فالأمرُ لا فَكَاكَ مِنه، ولا يمكِنُ كَبْحُه أو إدارةُ الرأسِ عنه، ومنذُ هذا التوقيتِ وأنا لا أُضَيِّعُ وقتًا في مثلِ هذه التساؤلاتِ والشكوك، وأَصبَحَ عندي يقينٌ داخلي أن هناك شيئًا لا بُدّ أن أُتِمَّه. أيقنتُ مِن حينِها أني يجِبُ أنْ أُطَوِّعَ حياتي كلَّهَا ما استطعتُ لإنجازِ المشروعِ الإبداعيِ والتعبيرِ عن خوالجِ صَدرِي ورؤيتي عن العالَمِ. وأَصبَحَ الإبداعُ أكثرَ طوعًا حينَ اعترفتُ بوجودِه، وحينَ لم أعترِضْ طريقَه أو أسمحْ لأحدٍ بذلك، وحثيثا بَدأَ مَن حولي يُدرِكونَ ذلك بالطبعِ بعدَ فتراتٍ مِن الإنكارِ التي لم تُسفِرْ عن شئ، وبَقِيَ يقيني بذاتي هو الثابت، وكان عليهم أن يدوروا في فَلَكِه أو يبتعدوا للأبد. الأمرُ يُشبِهُ المَحارَ، فليس كلُّ المَحارِ قادرًا على تكوينِ اللؤلؤِ داخِلَه، فآلافُ المَحاراتِ تعيش حياةً عاديةً، إنما المَحارةُ التي يَحدثُ لديها خللٌ ما يؤدي إلى اقتحامِ ذَرةِ ترابٍ ضارةٍ داخلَها فإنّ حُبَّ البقاءِ يدفعُهَا لتصحيحِ الخَللِ فتُغَطِّي تلك الشائبةَ بالمادةِ اللؤلؤيةِ، فتكونُ إذَا أتمّتْ ذلك أكثرَ اكتمالا مِن زميلاتِها التي لم تَقتحمْهَا ذراتُ التراب. الرحلةُ مِن النقصِ للاكتمالِ عبورًا فوقَ رؤوسِ العَوَام .. هكذَا أرى الأمرَ، ولا أرى الإبداعَ فقط هكذا، بَل أرى مَن غيَّروا الحياةَ مِن مُفكرينَ ومُبدعينَ وقادةٍ مَن دَفَعوا البشريةَ إلى الأمامِ، كلُّهم كقصةِ المَحارةِ هذه، وأنا أَطمَحُ أنْ أَغزِلَ لؤلؤتي بدأَبٍ وكَد، وأنْ أروي حكاياتي وأَقُصَّ رؤيايَ للعالَمِ .. وأُكمِلُ بذلك نَقْصِي .

وقالبُ القصةِ القصيرةِ يروقُ لي في كثيرٍ من الأحايين، وقد جرَّبتُ فيهِ عدةَ قوالِبَ، وجرّبتُ تحريرَه مِن بعضِ قيودِه مع الالتزامِ الصارم ِبتقديمِ قصةٍ شائقةٍ تَحمِلُ رؤيةً ما عن العالَمِ، وأنا لا أُحِبُّ أن أتنازَلَ لا عن اللغةِ المَنحوتةِ والمَدموغةِ بختمٍ شخصيٍّ له نكهةٌ ورائحةٌ مختلفةٌ، ولا عن بناءِ حَدَثٍ مُتَفجرٍ، ولا عن خَلْقِ شَخصياتٍ عَصيةٍ على النسيانِ، ولا عن إنتاجِ دلالاتٍ تَضرِبُ في عُمقِ الكشفِ عن ذاتِ الإنسانِ ومكنونِه ودوافعِه، وكذلك تُعِيدُ تَفكيكَ العالَمِ وإعادةَ ترتيبِه بِنَسَقٍ مختلفٍ، وتغيير العلاقاتِ والحقائق علنًا لو رتَّبْنَا العالَمَ بأشكالٍ مختلفةٍ، وضَربنا في جذورِ علاقتِنا بأنفسِنا وبالآخَرِ وبالوجودِ مِن حَولِنا، عَلَّنا لو فَعلنَا ذلك كلَّه باحَ الوجودُ بأسرارِه، وأَخرَجَ ما في قِيعانِه مِن فراديسَ ترتقي بِنا وبطريقةِ فَهْمِنا لأنفسِنا وللحياةِ بشكلٍ عام.

محمد رفيع

Saturday, April 2, 2016

مكاشفة أولى عن عسل النون



رحلة اخرى اخوضها في البحث عن الله ، وأرتحل اليه من خلال محاولة اعادة تشكيل عناصر الكون وتفكيكه ، علني حين أغير  ترتيب الاشياء أضرب  في جزور العلاقات وأبني من مفردات الكون عوالم تشبهني، علني بذلك أزداد معرفة بهذا الكون العظيم عل لو ذاد فهمي له تجلى وجه الله من بين طيات فهمي، وعلني أزيد جهلا به فأبدأ طريق العارفين من البداية سأقول حينها لأني ما استطعتُ أن أعرفَ أكثرَ، فاستسهلتُ أن أبدأ طريقَ العارفين مِن حجر البدايةِ علِّي إنْ مشيتُ ما مشيتُه أجاوزْ أو أُحلِّقْ أو أَمُتْ موتَ الشهيد.
عسل النون هي حكاياتي فانا نقطة النون ، أقف مشدوها والكون حولي يحتضنني ويبهرني ، أحاول ان اصطاد منه قبسا ، فتمثلت النون ، نون القلم وما يسطرون ونون حوت يونس الذي شابهني وانا في احشاء الكون يسير بي كيفما اتفق، استدعيت حكاية حقيقية عشتها في سن الطفولة او عاشها من حولي بينما انا كنت في نون الغيبوبة نقطة تتأرجح بين الحياة و الموت رأيت من ثباتي نقطا لنون تنساب من عين ابي الوحيدة ، فاستحييت ان اموت واجلت ذلك القرار ، وشد الله صناره عني، ورفعها خاوية هذه المرة، من قعر الغيبوبة سمعت حكايات يقصها على ملاك الاستفاقة والبعث، وكأنه ينفخ في صور لي وحدي يقرع طبول الحياة، صار يحكي لي في ليال الغيبوبة حتى استفقت ،  تصيدت عسل النون في الجزئين الباقيين اللذان آتيا  بعد ما قاله حكائيل لي ، كن الخالقة في كن فيكون فرمزت لعنصري خلق الانسان الذكر والانسى بالكاف والنون فكانت قصص ككل الكاف قصص رجالية في مواضع من حياتهم في اغلبها ذكورية كالحرب والسجن والاستماع الى سيمفونية الله بينما جاءت عسل النون صافية حزينة عن زواج لا يأتي يجرح الانثى و حمل يتمنع عنها فتنشرخ الامومة فيها عن قديسة بلا ولد تواجه الموت وتلك العشاءات الاخيرة في بيت المسنات، وحده نرسيس الجديد جاء قبل الكاف والنون ولعلي تمنيت به الوصول للانسان الكامل الذي يكمل نقصة مرة بعد مرة عله يرى عله يفهم عله يسمع لغة الكون.
لعسل النون أهدأ للولوج الى الحضرة وأهداء الخروج أهديتها لخمسة وعشرين أمرأة في حياتي شكلوني وأثروا في وجداني فأليهن نزفت نزيف عسل النون الذي هو عسلهن.

محمد رفيع 

Sunday, June 8, 2014

ستر الحياة الايدي غير الناعمة

ستر الحياة هو فيلمي التسجيلي الذي أستهل به هذه الحقبة من تاريخ مصر، ليس صدفة ولا بمعزل عن تلك الفترة التي عاشتها مصر في ثلاث سنوات بين التخبط والضبابية وعدم الوضوح و اليأس والرجاء ، والآن وبرغم اعتباراتي السابقة كلها أؤمن بان ساعة العمل قد حلت ، قد أكون تمنيت لمصر أكثر مما حصلت عليه اليوم لكن ضميري الوطني يحتم علي أن أقف مؤديا لدوري ، ولأني منذ نعومة أظافري وجدت قيما حولي تقلل من قيمة العمل الجاد وتعلي من قيم الفهلوية والسمسرة و والمسابقات والج...وائز وأي شيء يزدري العرق والاجادة فإنني وطوال سنوات مضت هي أغلب سني عمري تمنيت أن أساهم في احياء قيمة العمل من جديد وان القي الضوء على أياد غير ناعمة تكسب رزقها من العرق هذا السائل الذى نسينا أو تم تعميتنا عنه أياد تقف راضية تستر حياتها لا تخجل من مهنة مهما صغرت وانما تؤدي دورها وتعلمنا مع كل حركة أصبع ان العمل هو الملاذ هو الذي يضع تاجه الشريف على الرؤوس وليس سواه قارب نجاة ، شكرا لعم محمود هذا المكافح الذي سيدهشكم مهما حلق الخيال بكم ومهما رأيتم من النماذج الانسانية ستدهشون بلا أدنى شك لدي و ستحمدون الله كثيرا وستستبشرون خيرا بما لديكم وبما لدى هذا الوطن العزيز
محمد رفيع

الفيلم سيعرض في عرضه الاول يوم الاربعاء 11 يونيو الساعة السابعة في المجلس الاعلى للثقافة

Thursday, February 7, 2013

قصة ثانية من أبهة الماء


تحت الذى فوق

 

  عندما دخلت الى المسرح كان الظلام شديدا ، والمكان خاويا ، لا احد هناك على الخشبة و المقاعد فى القاعة لا تحمل الا الهواء فوقها . فظننت انى اتيت مبكراً او ان حادثا ما ادى الى الغاء العرض ، لكنى تذكرت ان الرجل الذى ادخلنى  الى القاعة ابتسم  ابتسامة حانية واشار الى بالدخول  دون ان يلفت نظري الى شئ .

 سأنتظر قليلا ربما هى مسرحية بلا جمهور ، تحسست طريقى الى مقعد فى المنتصف والقيت بجسدي عليه ، سمعت صوت مفاصلى تأن وكأنها تذكرت عناء الطريق  فجأة   وكأنى نسيت انى مشيت كثيرا ، اخرجت ما فى صدري من هواء فى زفرة طويلة ، حينها تنبهت الى كوة أعلى خشبة المسرح تنفتح  محدثة صريرا اقشعر له بدنى لكنى هدات لما رأيت ضوء ارجوانى ناعم يتسلل من الفتحة تبينت عليه سلما خشبيا عتيق ينزل من اعلى حتى يرتكز على خشبة المسرح ، مقبضا اليد الذان على جانبي السلم حملا من النقوش الجميلة  ما أسر روحى ، قلت لنفسى لعلها حيلة جديدة وسينزل الممثلون من أعلى و بدأت اتفقد ما ظهر من الديكور على الضوء الخافت ، اسفل السلم تجمعت اكوام من الكتب القديمة موضوعة بعناية ، الى اعلى قليلا سلال من الازهار معلقة فى الهواء بخيوط غير مرئية ، جلد ثعبان افريقى معلق على الحائط وساعة لاتدور . فى الوسط تمثال لأمرأة عارية بدى حقيقيا ، عيناها تلتمع فى الظلام كقطة ، تغطى مكامنها بثمار من الفاكهة .قلت لنفسى لو يأتى أحد ويقطف ثمارها سيكتمل مشهدها  ، ماذا لو اصعد على المسرح قبل ان يأتى احد واقتربت منها ربما هى حقيقية ، تبدو حقيقية ، هى حقيقية  بالتأكيد ، طارت افكارى لما سمعت وقع خطوات تأتى من الكواليس خطوات بطيئة متثاقلة انتظرت قليلا حتى دخل رجل عجوز بدى شكله مألوفا ليس من المشاهير الذين اعرفهم لكنى مازلت اذكره عندما كان شابا.

 نظر الى المراة العارية وسار بجانبها حتى ظننته سينزع الفاكهة لكنه التقط كتابا ضخما من كومة الكتب وصعد على السلم فى هدوء بينما موسيقى ناعمة بدأت تنساب ، صعد الرجل السلم حتى ادرك فتحة الضوء ادخل رأسه فيها وصعد بضع سلمات حتى غاب نصفه فى الاعلى . أنتبهت كل حواسى فى ترقب حتى سمعت همسات صادرة من أعلى  بدى لى أنه يقرأ من الكتاب  ،  والغريب أن لصوته صدى اعلى من همساته  نفسها  أو أن صوتا فى الاعلى ردد كلماته لا أعرف بالضبط . سألت نفسى

  هل هو عامل اضاءة يلقى بتعليماته الى فريق أعلى السقف ، لو كان كذلك فانا اتيت مبكرا فعلا  لكنى استسلمت الى شغفى بانتظار ما  ستفعله المرأة عندما يبتدئ العرض

  شد انتباهى دمدمة اتية من اعلى كانها لجمهور غفير و خطر لى ان هذا الرجل ملقنا يلقن ممثلين ما فوق السقف فإنتابتنى حيرة هل يؤدون البروفة النهائية هناك

ام اننى اجلس الآن فى غرفة الملقن وفاتنى ان اجلس فى الاعلى وأرى العرض كاملا ، هو بالتأكيد ملقن يمشى بتثاقل لرتابة ما يفعله يوميا وهذا الكتاب الذى بيده مؤكد أنه نص المسرحية والا فما معنا أن يبقى هكذا يطل بنصفه الاعلى ويملى كلاما لممثلين ينسوا أدوارهم ، ولكن هل غرفة الملقن واسعة الى هذا الحد ، و مزينة بسلال  من الورد وتماثيل عارية ، هل المسرحية هنا ام فى مكان آخر.

 

 هل اصعد على الخشبة واقترب من المرأة العارية التى تثير فضولى ، لماذا اجلس أنا  هنا بينما الجمهور فى الاعلى يبكى تارة ويضحك تارة .

بالتأكيد مكانى ليس هنا ،  سأصعد واسحب كتابا واقرأ ما فيه ربما دلنى على ما يجرى  ولكن  ما هذا الغباء أأكتفى بقراءة العرض دون مشاهدته . لا سأصعد إلى الخشبة وأعتلى السلم واشد الرجل من بنطاله لأسأله عما يحيرنى.

ثم قلت لنفسى  وما بالى بكل هذه الحيرة سأرجع الى بيتى فأزهار الشرفة عطشى منذ يومين والتلفاز ظنى انى تركته مفتوحا واطفالى الذين ينتظرون الحكايا سأحكى لهم عن غرفة الملقن المزركشة وعن بنطاله القصير. أو أنام على سريرى محدقا فى السقف بلا هدف ، وما الفارق فأنا الان أحدق فى السقف بلا هدف . ولكن لا أحدق فى سقف بيتى أفضل بكثير من أن أحدق فى بنطال ملقنا.

  هممت بالرحيل واذا بالرجل ينزل على السلم فأنتظرت علّى اكلمه وعندما هبط على المسرح نظر إلى عيني مباشرة . قال كلاما ظللت أردده ، لا أدري ما الذى جعلنى افعل ربما لأنه ملقن والعادة جرت على تردديد كلماته التى يحفظها اكثر منى ، وربما لأنى اردت ان انطق هذا الكلام الذى لا اذكر اللآن منه شيئاً غير انه فى النهاية لقننى شهادتين ثم اختفى.

Saturday, August 6, 2011

مكاشفة أولى عن رواية ساحل الغواية







مكاشفة أولى عن رواية ساحل الغواية



ساحل الغواية هي رواية تقترب كثيرا وتحاور تلك المجتمعات التي تسكن التخوم بين البحر والصحراء تحاول مناقشة واستنباط تلك المرتكزات التي فرضتها تقاطع الثقافات هناك. فبين الغوص في ثقافة أهل السواحل و الارتحال في ثقافة بدو الصحراء حاولت ساحل الغواية ان ترمى شباكها. بين صخب البحر والانفتاح على الأخر وعادات وتقاليد وأساطير السواحل من جهة ومن جهة أخرى سكون البادية بكل معطياتها الثقافية التي شكلت شخصية أهل الصحراء. وانأ أميل لاستخدام لفظة الصيغ الحياتية والحضارية لأعبر بها واستبدل منظومة العادات والتقاليد والمعتقدات والأساطير ، فأنا أظن أن هذه المعاني على اختلافها ما هي إلا صيغ حياة ارتضاها الفرد أو المجتمع لتساعده على البقاء. صيغ حياتية تتناسب والظروف الاجتماعية والاقتصادية قد تحل المعادلة وتجعلنا نتفهم مسألة تقاطع الثقافات. إن تأمل ارتقاء المجتمعات البدائية عبر تاريخ منطقة محددة عصفت بها تغيرات اقتصادية وسياسية شتى لهو جدير أن يفتح أعيننا على حقائق عن جوهر الإنسان ربما أخفتها عنا المجتمعات الحضرية الراسخة. أو على اقل تقدير راوغت في إظهارها والإفصاح عنها بقدر تعقيدات هذه المجتمعات الحضرية.



إن الإنسان وليس البيئة هو رهان رواية ساحل الغواية الأول، وان كانت قد اتخذت من البيئة الصحروبحرية خلفية لأحداثها؛ إلا أنها حاولت بجدية التفتيش فى أعماق النماذج البشرية التى قدمتها ، والتى افترضت الرواية أنها عاشت هناك فى مطلع القرن الماضي حيث تدور أحداث ساحل الغواية في مطلع القرن العشرين . تقدم ساحل الغواية أيضا مقدمة تاريخية لإنشاء بعض المدن كمدينة الغردقة وغيرها على شاطئ البحر الأحمر مستعرضة فترة اكتشاف البترول على ايدى الانجليز و و ضع المجتمعات البدو صعيدية التي بدأت تتشكل على ساحل البحر.



ولعلني أقدم على تجربة كتابة أجزاء أخرى لهذه الرواية لتشكل ربما ثلاثية أو رباعية أحاول أن أقبض فيه على هذا الزخم، غير أننا ألان أمام تجربة ساحل الغواية منفردة عن أى سياقات قد تتشكل فى الأيام القادمة.



تتحدث الرواية عن المرأة البدوية بجمالها وقدرتها النافذة على معايشة الواقع وإيجاد صيغ حياة موافقة للظروف المحيطة وتتعرض أيضا لقراءة الودع وقص الأثر كأدوات لصنع تلك الصيغ واكتشاف البترول والتجارب التي أجريت على التصوير المتحرك وجلسات الحكم العرفي عند القبائل وقوانين تلك المجالس كما تحتفي بالعشق تميمة الإنسان الأولى التي تدفعه وتعينه على البقاء . توليفة من كل هذه الأشياء في جو أسطوري حاولت فيه أن أقدم وجها من وجوه الإنسان هذا الكائن اللغز.



محمد رفيع