تلك سدرة منتهاى .... عمرى ومضة فيك


Thursday, April 18, 2019

فصل من رواية "أنا ذئب كان"


زغرودة له - فصل من رواية "أنا ذئب كان" 

ماتت مدينة كما يموت الميتون، لا ليس كما يموت الميتون، ماتت موتَها الخاص، فالموت كالبصمة لا يتكرر، لكننا لا نلحظ ذلك إلا حين نعبر للضفة الأخرى، أصابها هزال مفاجئ، وعافت الطعام، وأتعبت سلمى في إطعامها مثل طفل فطَمَته أمّه. والعجيب أنها لم تسترح إلا للبن الماعز؛ تزدرِده كالرضيع، وتفتح عينيها مستمتِعة به. ظلت على حالها قرابةَ الشهر ثم ذهبت إلى هناك. وفي هذا الشهر الذي سبق موتَها، كانت تتعلق عيناها بالسماء، وتبدو مسحورة لا تنبس بكلمة لساعات طوال، وأحيانًا يذهب سواد عينيها ويترك العين بيضاء تمامًا، ثم تغمض جفنيها وتفتحهما لترى سلمى الحدقةَ وقد عادت بعد غيابها المخيف. ولم يكن غياب الحدقة هو أغرب ما تُحيك به موتها، فللهذيان والصوت نصيبٌ كبير. قالت ذات يوم وسلمى تحلب المعزة كي ترضعها، إن ملك الموت زارها، وحين سألته: ليش جيت؟ قال جئت لأراكِ وأعاين حالتك، وأذهب مِن حيث أتيت. قلت: متى هتجيني المرة هادي؟ فلم يتكلم فجذبته من أذُنِه وشمّمتها وعرَفت سِره الذي يخفيه، وقلت له قبل أن يرحل: واللهِ لألاقيك بالزغاريد.
لم تصدق سلمى أيًا من هذه الأحاديث الأخيرة لها، وكم صدقتها وآمنت بكل ما تقول فيما مضى، لكنها تعرف أنها الآن تهذي هذيانًا يليق بحياتها الصاخبة. فهي التي حاكت كثيرًا من الأساطير؛ وهي التي أقنعت الرجالَ بالحمل الراكد؛ نعم هي تلك المرأة الضعيفة التي أبقت سلمى على قيد الحياة، وغيّرت الساحل كله بكلامها المعسول وحكاياتِها الساحرة، هي الآن تموت موتَها الخاص تحيكه كآخر أساطيرها.
دخلتْ عليها سلمى في يوم من أيامها الأخيرة؛ فطلبت مدينة منها الاقتراب، وحين اقتربت سلمى رفعت ثوبها وعرّت لحمها، وقالت انظري؛ رحِمي يهجرني. نظرت سلمى بخوف فوجدت جزءًا من رحِمها يَخرج من محاشمها مخضبًا بالدم. تألمت مدينة وسلمى، ولا ندري أي الألميْن أمضى؛ في ذلك الليل البهيم الذي حاطَ كل شيء. شهقت سلمى وانفجرت باكية لمّا رأت الرحم، وأحست بهزةٍ عنيفة في أعماقها، وأحست بألمٍ في حوضها، كأن رحِمَها هي يبكي على الرحم المدْمَى. وشعرت به يحرقها وكأنما شبّت فيه النار. لم تنم سلمى ليلتَها رغم أن مدينة نفسها نامت مطمئنة لوجودِها بجانبها، أخذت تتأوه ثم نامت في حضن سلمى كالطفل، حاولت سلمى أن تصطاد النوم، لكنه فر منها، ووقفت صورة الرحم المسربل بالدماء حائلا بينها وبين النعاس. أدركت سلمى في ليلتها تلك أن هذيان مدينة لم يكن عبثا، وأنها حتمًا ستموت بعد وقتٍ قصير، وفكرت كيف توقف عربة الموت وتنجو بها؟ وهي التي نجت بها وأبقتها على قيد الحياة هي ووليدها. فلولاها لمات الطفل جوعًا، أو تزوجت سلمى من رَجل، وما يدريها كيف كان سيعامل سالمًا؟ مدينة لا تذهبي، ابتلعي رحمكِ المدلّى، ابلعيه، أرجعيه داخلك وابقي لأجلي، لأجل الساحل كله، لكن عجلة الموت لا تقف، لا تسمع الأنّات، لا تبطئ الخطى، لا تخطئ الهدف، عجلات الموت صمّاء، وعمياء، وغبية.
في أيامِها الأخيرة تصحو مدينة من نومِها، وحين تدرك أنها على قيد الحياة، وأن الموت لم يأتِ، تصرخ فيه وتنعته بالجبان، وتشتمه لأنه لم يأتِ ليخلّصها من عذابها، ومن ملالة العيش، ولا تهدأ إلا حين ترميه بالصحون الفارغة التي باتت بجانبها، وفي الليل تمتلئ تلك الصحون بصراخها وعويلها وتكبيراتها، كأن شريط الصوت الذي صاحبَ حياتها يزورها في مناماتها، فمرةً تنادي أباها، ومرةً تكبّر تكبيرات الإحرام، وأحيانًا تعوي كَكَلبةٍ جُرِحت، أو تصرخ صراخَ أوزِّ البحر حين يتجمع على وليمةٍ من الأسماك. وأغرب هذه الأيام وأكثرها فزعًا، ذلك اليوم الذي كانت سلمى تحلب معزتها، وهي نائمة على فرشها، فجلست وكأنها مسحورة بين الصحو والنوم، وغيّرت من نبرة صوتها وتكلمت بلسان جِنية البحر وقالت: آه يا ابن آدم، يا ذا الجلد الناعم والمشاعر المتأججة، تاللهِ لأرشفن من سوائلك الجنة رشفًا، من رضابك وماء عينيك، ومن عسل الحياة الذي يتفجر من عامود نارك. تركت زوجي الغبي يغويك بالشرور لينتقم منك، علّه يرجع لجنتِه الأولى، وتفرغتُ أنا لك لأني الأذكى، فالجنة أرشفها الآن بلساني وغاوياتي، وآخذ من العمر ما شئتُ وما طاب لي. ولن أنتظر نهاية الزمان لأدخل الجنة أو السعير، ولا لكي أدخل سجالا مع أحد. الجنة هنا بين فخذيك، وحول لسانك، وفي شبابك.
آه يا بنت حواء التي تنتظر لتأخذ الفتات الذي يسقط من مائدتي، لو صبرت على النار التي تشتعل على سواحل جسدك نجوت، وقذفت لك التفاحة كاملةً غير منقوصة ولا بها عطب، وأزلت من لحائها قضمتي المقدسة، لكن هيهات أن تصبري فقدْ رأيت الله يصنعكِ من ضلعٍ مقوسةٍ كقوس الغزاة، ومن رغبةٍ محمومة كالبراكين، ومن مكرٍ أعيا الناسَ والشياطين.
قالت مدينة ذلك ثم سَقطت دفعةً واحدة، حتى ظنت سلمى أنها ماتت، ففرحت أنها سكتت وحزنت أنها ماتت، وحين تمالكت أنفاسها اقتربت منها في فزعٍ بادٍ عليها، وقربت أذنَها من صدرها وهي تتوقع أن تنشب أظافرها فيها في أية لحظة، وحين لامست صدَرها أحست بأنفاسها تتردد فاطمأنت. لكنها لم تنم ليلتَها من الخوف، تمامًا كليلةِ الرحِم المدلّى. ظلت سلمى حتى شروق الشمس صاحيةً، وحين استيقظت مدينة من نومِها، بدت لا تذكر شيئًا مما حدث ليلة أمس، بل بدت وكأنها شُفِيت تمامًا، وكأن عافيتَها عادت لها، وعند الظهيرة أطلقت زغرودةً وماتت.


No comments: