تلك سدرة منتهاى .... عمرى ومضة فيك


Sunday, January 22, 2017

كلمتي أمام لجنة تحكيم الملتقى القصة القصيرة








قال السيد "موباسان": "إن هناك لحظاتٍ عابرةً منفصلةٌ في الحياة، لا يَصلحُ لها إلا القصةُ القصيرة؛ لأنها عندما تصوِّرُ حَدَثًا مُعينًا لا يهتم الكاتبُ بما قَبلَه أو بما بَعدَه"

وأقول هُنَا حين خَرجَ إنسانُ الغابِ من الكهفِ وقَضَى يومَه في مطاردةِ الفرائسِ وعادَ خاليَ الكفيْنِ، كانت رأسُه مليئةً بالحكاياتِ التي حارَبَ بها - بعدَ رجوعِه من رحلتِه - انتظارَ الأطفالِ وضَجرَ الزوجةِ والجوعَ، حين ملأت الحكاياتُ فمَه واستساغَ طَعمَها شَعرَ بالامتلاءِ والالتئامِ، وحين نام الأطفالُ على وقْعِ حكاياتِه انقشَعَ عنه الحزنُ ومَلأته حكاياتُه بالأملِ وتَبَسَّمَ لزوجتِه حين نامت غيرَ حاقدةٍ عليه.

هذه قِصتُنا التي ما نزالُ نمارِسُها، لكنّ الكهفَ اختلَف، والحكايات صارت تأتينا مطبوعةً، وصِرنا نشتريها بالمالِ لحاجتِنا أن نعيشَ في حياةِ الآخرين . القصةُ هي التي تُثبِتُ لنا أن الخلودَ مُمكِنٌ، لكِنْ بطريقةٍ غيرِ التي فَهِمناه بها؛ فليس الخلودُ وَحدَه أن تَبقَى حياتُكَ ولا تنتهي، لكنك قد تَخلُدُ لو استطعتَ أن تعيشَ مائةَ أو ألفَ حياةٍ غيرِ حياتِك، وهذا ما تَفعلُه القصةُ بِنا ، هنا تَكمُنُ اللعبةُ باستعارةِ الحياواتِ .. فَحُبُّنا للقصةِ ما هو إلا حاجةٌ نفسيةٌ وبَيلوجية لتمثُّلِ الخلود، وحُبُّنا في حَكْي قصةٍ على أحدٍ هو رغبةٌ دفينةٌ لنجلسَ على جبلِ الأولمب ونروي قِصصًا لبشرٍ، ونرسُم أقدارَهم على الأرض، قولوا لي باللهِ عليكُم عن شئٍ اخترعناهُ في حياةِ الإنسانيةِ كلِّها مَنَحَنا الخلودَ واستعارَ لنا قدرةَ الإلهِ الذي حين نتمثلُه على الورقِ نعرِفُ قَدْرَه في الأعالي!!

أليس بهذا تكونُ القصةُ القصيرةُ أهمَّ اكتشافٍ أدبيٍ في العصرِ الحديث؟

إن كلَّ قصةٍ قصيرةٍ لا بُدّ أن تقدِّمَ رؤيةً ما للعالَمِ مِن خلالِ تَكثيفِ وتَقطيرِ لحظةٍ مُعينةٍ في حياةِ بَطَلِها أو أبطَالِها، وهذه اللحظةُ كاشِفةٌ لقطاعٍ زَمَنيٍ طولي في حياتِه يُكَثِّفُ أزمتَه وأفكارَه وخوالِجَه ودِرَامَا الحياةِ مِن حولِه في آنٍ، يا لَها مِن مَهَمةٍ صعبةٍ ومَريرةٍ، أن تلتَقِطَ أهمَّ لحظةٍ في حياةِ بَطَلِك، اللحظةُ التي يكتشِفُ فيها ذاتَه ويَختَبِرُ قناعاتِه ويَنقُلُ لنا رؤيتَكَ أنتَ عن الحياة.

لهذا فالقصةُ القصيرةُ فنٌّ كاشِفٌ لا يرتادُهُ مُدَّعون، وإنْ فَعَلوا فكشْفُ زَيْفِهم يكونُ بسهولةِ تَحريرِ قطعةِ شيكولاته مِن غُلافِها، وهذا ليسَ الحالَ في كثيرٍ مِن الأجناسِ الأُخرَى؛ فالقصةُ المُشوَّشةُ ليست بقصةٍ، ولا المُفَكَّكَةُ، ولا السطحيةُ بقصةٍ مِن الأساس، فإنْ كانَ ليسَ في بؤرةِ جَذوتِكَ العميقةِ شيءٌ كاشفٌ ضاربٌ بجذورِه في أرضٍ جديدةٍ فاهْجُرْ هذا الفنَّ لطرائِقَ أُخرَى غيرِها.

إنّ القاصَّ المبدِعَ – الجاد- هو وحدَه القادِرُ على تشكيلِ وصياغةِ هذه القيمةِ الإبداعيةِ المُهمةِ ليُعيدَ بلورةَ واكتشافَ مَنَاطقَ مُهمةٍ ربَّما تكونُ مُهمَلةً في ذواتِنا وفي حياتِنا الآنية. وهو أيضًا الذي يمتلِكُ الوعيَ الحادَّ بالتفردِ الإنساني، ومِن ثَمَّ التعبيرَ عَنه في قالَبٍ فنيٍّ قَصصي.

الإبداعُ عندَ الفنانِ أو الأديبِ في رأيي ليس اختيارًا؛ فهو قد يَختارُ ماذا يَكتبُ، أو أيَّ المَدارسِ يَتَّبِعُ، أو أيَّ التجَارِبَ يُجرِّبُ، لكنه لا يَختارُ فِعلَ الكتابةِ مِن عَدَمِه، فهو فِعلٌ قَصريٌّ حَميدٌ دوافعُه ذاتية، وهذا يُمثِّلُ بالنسبةِ لي بالضبطِ كالمرأةِ الحاملِ التي قد تَختارُ اسمَ مولودِها، أو ألوانَ ملابِسِه وغرفتَه وسريرَه، لكنها لا تَستطيعُ أن تَختارَ ألا تَلِدَ مُطلقًا، ولا أن تَحتفِظَ بالجَنينِ في أحشائِها مَدَى الحياة.

في بداياتي كنتُ أتساءَلُ السؤالَ الأبديَّ والتقليديَّ عن هل أنا موهوبٌ مِن الأساسِ أَم لا؟ وهل هذا المُعتَرَكُ الذي أنا بِصَددِه هو لي؟ وما هذه التراكيبُ اللغويةُ والرؤىَ والقصصُ التي تَصعدُ إلى رأسي؟ وما هذه الحالةُ مِنَ التوترِ المَحمومِ التي تُصيبُني؟ فكان أنْ قَرأتُ في عِلمِ نفْسِ الإبداع وأيقنت بعدَها أن العمليةَ الإبداعيةَ هي شئٌ يَعتمِلُ في الأعماق دونَ تَدَخُّلٍ مِنا، وأنها خاصةٌ بكيمياءِ المُخِّ، وأن خَللاً ما في الشعورِ والوجدانِ يولِّدُ تلك الطفرةَ التعبيريةَ، وما هي إلا بحثٌ دائِمٌ عن الاكتمالِ والتحقق، إذًا فالأمرُ لا فَكَاكَ مِنه، ولا يمكِنُ كَبْحُه أو إدارةُ الرأسِ عنه، ومنذُ هذا التوقيتِ وأنا لا أُضَيِّعُ وقتًا في مثلِ هذه التساؤلاتِ والشكوك، وأَصبَحَ عندي يقينٌ داخلي أن هناك شيئًا لا بُدّ أن أُتِمَّه. أيقنتُ مِن حينِها أني يجِبُ أنْ أُطَوِّعَ حياتي كلَّهَا ما استطعتُ لإنجازِ المشروعِ الإبداعيِ والتعبيرِ عن خوالجِ صَدرِي ورؤيتي عن العالَمِ. وأَصبَحَ الإبداعُ أكثرَ طوعًا حينَ اعترفتُ بوجودِه، وحينَ لم أعترِضْ طريقَه أو أسمحْ لأحدٍ بذلك، وحثيثا بَدأَ مَن حولي يُدرِكونَ ذلك بالطبعِ بعدَ فتراتٍ مِن الإنكارِ التي لم تُسفِرْ عن شئ، وبَقِيَ يقيني بذاتي هو الثابت، وكان عليهم أن يدوروا في فَلَكِه أو يبتعدوا للأبد. الأمرُ يُشبِهُ المَحارَ، فليس كلُّ المَحارِ قادرًا على تكوينِ اللؤلؤِ داخِلَه، فآلافُ المَحاراتِ تعيش حياةً عاديةً، إنما المَحارةُ التي يَحدثُ لديها خللٌ ما يؤدي إلى اقتحامِ ذَرةِ ترابٍ ضارةٍ داخلَها فإنّ حُبَّ البقاءِ يدفعُهَا لتصحيحِ الخَللِ فتُغَطِّي تلك الشائبةَ بالمادةِ اللؤلؤيةِ، فتكونُ إذَا أتمّتْ ذلك أكثرَ اكتمالا مِن زميلاتِها التي لم تَقتحمْهَا ذراتُ التراب. الرحلةُ مِن النقصِ للاكتمالِ عبورًا فوقَ رؤوسِ العَوَام .. هكذَا أرى الأمرَ، ولا أرى الإبداعَ فقط هكذا، بَل أرى مَن غيَّروا الحياةَ مِن مُفكرينَ ومُبدعينَ وقادةٍ مَن دَفَعوا البشريةَ إلى الأمامِ، كلُّهم كقصةِ المَحارةِ هذه، وأنا أَطمَحُ أنْ أَغزِلَ لؤلؤتي بدأَبٍ وكَد، وأنْ أروي حكاياتي وأَقُصَّ رؤيايَ للعالَمِ .. وأُكمِلُ بذلك نَقْصِي .

وقالبُ القصةِ القصيرةِ يروقُ لي في كثيرٍ من الأحايين، وقد جرَّبتُ فيهِ عدةَ قوالِبَ، وجرّبتُ تحريرَه مِن بعضِ قيودِه مع الالتزامِ الصارم ِبتقديمِ قصةٍ شائقةٍ تَحمِلُ رؤيةً ما عن العالَمِ، وأنا لا أُحِبُّ أن أتنازَلَ لا عن اللغةِ المَنحوتةِ والمَدموغةِ بختمٍ شخصيٍّ له نكهةٌ ورائحةٌ مختلفةٌ، ولا عن بناءِ حَدَثٍ مُتَفجرٍ، ولا عن خَلْقِ شَخصياتٍ عَصيةٍ على النسيانِ، ولا عن إنتاجِ دلالاتٍ تَضرِبُ في عُمقِ الكشفِ عن ذاتِ الإنسانِ ومكنونِه ودوافعِه، وكذلك تُعِيدُ تَفكيكَ العالَمِ وإعادةَ ترتيبِه بِنَسَقٍ مختلفٍ، وتغيير العلاقاتِ والحقائق علنًا لو رتَّبْنَا العالَمَ بأشكالٍ مختلفةٍ، وضَربنا في جذورِ علاقتِنا بأنفسِنا وبالآخَرِ وبالوجودِ مِن حَولِنا، عَلَّنا لو فَعلنَا ذلك كلَّه باحَ الوجودُ بأسرارِه، وأَخرَجَ ما في قِيعانِه مِن فراديسَ ترتقي بِنا وبطريقةِ فَهْمِنا لأنفسِنا وللحياةِ بشكلٍ عام.

محمد رفيع

No comments: