تلك سدرة منتهاى .... عمرى ومضة فيك


Sunday, October 7, 2007

عطر الرواية و عطر الفيلم







عطر الرواية و عطر الفيلم

صدرت رواية العطر فى أوروبا سنة 1985 و هى لكاتبها الالمانى باتريك زوسكند و منذ ذلك الحين ورغم الشهرة الواسعة للرواية إلا أن السينمائين وجدواصعوبة بالغة فى وضع تصور عن عمل سينمائى مقتبس عن هذه الرواية . و السبب لمن قرأ الرواية واضح جدا . إذ إنه يتمثل ليس فقط فى مستوايات الرواية العديدة ولا فى خلفيتها الفلسفية فحسب و إنما ببساطة فى صعوبة إيجاد معادل بصرى موضوعى لهذا الذخم الشديد من الروائح و العطور وتلك الموهبة الشمية الغير مسبوقة . ولكن و بعد عشرون عاما من صدور الرواية أقدم المخرج توم تويكر
على هذه المغامرة و سنحاول هنا الاشارة إلى ما نجح فى تصويره لنا و ما اخفق فى إيجاد معادلات دلاليه له .


عطر الرواية

لم يعرف الكاتب الالمانى المولود على حواف جبال الالب "باتريك زوسكند "على مستوى واسع إلا عندما ألف مسرحيته "عازف الكونترباس" التى ظهرت فى فصل واحد عن عازف متوحد مع الته الموسيقية فى مونو دراما إشكالية التوحد مع الذات و إختصارالعالم الى غرفة او مكان ضيق. و فقد الاتصال مع الاخر و التركيز المطلق على الوحدة الانسانية . ثم جاءت روايته " العطر " لتنال شهرة واسعة و يتم ترجمتهاإلى ما يزيد عن عشرين لغة و يباع منها 15 مليون نسخة . و قد قال عنها النقاد أنها بمثابة رد اوربى على زخم الواقعية السحرية القادم من امريكا اللاتينيه . والرواية ذات ابعاد فلسفية متعددة فى وصفها الانسان ككائن وحشى لا تقل وحشيته حتى لو تستر بالحضارة الى سعى الانسان الدائم للسيطرهعلى البشرو كأنه يريد أن يستعير سطوة الاله أو يصنعها , هذا كله على خلفية إجتماعية و سياسية يعبر فيها الكاتب عن رؤيته.
الروايه على قدر بساطتها فى التناول فهى بالغة العمق و مخيفة فى بعض أجزائها وتجعلك تفذكر طويلا بعد الانتهاء من قرأتها . والثابت فى أغلب الروايات التى نالت شهرة عالميةهو احتوائها على كم معلوماتى و معرفى كبير وهذه ايضا سمة من سمات رواية العطر . فالكاتب هنا دخل بنا الى عالم العطور و الروائح و الى دهاليز مهنة العطارة حتى أنك تتسأل هل كان باتريك زوسكند عطارا فى يوم ما أم عازف كنترباس كما فى مسرحيته السابقه ولكن هكذا سمة الادباء الكبار. والروايه تدعو للتأمل فى مفرادات الحياه . فبطل الروايه جان باتست غرنوى الذى ولد بلا رائحة والذى تمحورت







حياته حول محاولة إيجاد رائحة خاصة به يدعو للتأما فى ماهية الانسان الحقيقية وكيف أن جان باتست هذا شعر ان رائحة الانسان تمثل هويته بشكل من الاشكال . وان الولادة بلا رائحة هى ولادة بلا هوية . وكيف أنه فى رحلة البحث عن عن الهوية / الرائحة إعتدى على هويات وأجساد فقط ليسطو على ارواحهن أو بالاحرى روائحن حيث كانت كل ضحاياه من العذارى الجميلات والذى أعماه بحثه المضنى عن رائحة / هوية حتى عن جمالهن . ثم لم يعد جان باتست غرنوى قانعا برائحته / هويته التى صنعها لنفسه بل اصبح يتوق لتصنيع رائحة / هوية تجعله محبوبا بل معبودا مطلق القدرة والتأثير على البشر هؤلاء الذين انكروا عليه هويته فى السابق . وها هو يستطيع بهوية / رائحه القديسين و الملائكة أو الارباب التى صنعها لنفسه يجعل من ألد أعداءه عاشق له بل عبد من عبيده وها هو يهرب بعطره السحرى الذى ألفه من روائح العزراوات يحول قضية شنقه الى مسرحا من الحب . حبا لايعرف فوارق سنية ولا طبقية ولا عنصرية لكن جان لم يقنع بذلك فسار الى حتفه الى مكان مولده ليقنع أو لا يقنع فى هذه الحالة بأن يكون خبزا للجائعين . هل إنتحر جان باتست هل أطعم نفسه للفقراء هل أراد أن يرتوى من الحب فلم يروه غير أن يوزع جسده على الناس البسطاء . هل أراد أن ينهى حياته بنفس الوحشية التى عاش بها . ذلك القاتل المنذور للقتل بلاوعيه قبل وعيه . فهو أنهى حياة والدته بصرخة حنجرة لترسل الى المشنقة فور اكتشاف الناس لوجوده وعندما ترك مدام "جايارا" قتلت بعدها بدقائق كما مات الدباغ "غريمال" عندما رحل عنه جون باتست وهكذا حدث مع العطار "بالدينى" عندما سافر جان الى جراس فالموت نذيرك يا باتست أينما حللت.
وفى النهاية ربما تحتاج رواية العطر الى دراسة تفصيلية أكثر عمقا لنتمكن من الآمساك بكل جوانبها . ولكن ما قصدناه فى هذه المراجعة السريعة للروايه ذاتها هو تصوير كيف أن الرواية صعبة للغاية فى محاولة تحويلها إلى عمل سينمائى .




عطر الفيلم

"كيف يمكن أن تجد معادلا بصريا لعطر ما , بل أكثر من ذلك لآلاف العطور؟" . أتخيل أن سؤالا مشابها كتبه السناريست أندرو بيكين ووضعه أمامه ثم استغرق فى التفكير لساعات قبل أن يبدأ فى ترجمة هذه الرواية . وأتخيل أيضا أن المخرج المغامر توم تويكر لم يجد إلا لقطة لأنف كبير يخرج من الظلام فيملأ الشاشة كلقطة افتتاحية يوحى بها للمشاهد ان ما سيقدمه له هو بالآحرى عالم روائحى و ليس بصرى . و حاول المخرج و السناريست الاقتراب من الروايه إلى أقصى درجة . فيكاد يكون و على مستوى أحداث الروايه لم يتم حذف إلا بعض الاحداث التى كانت ستمثل عبأ على إيقاع الفيلم ومثال على ذلك التجارب العلمية التى أجريت على جان باتست بعد قضاؤه سبع سنوات فى الجبال. و الجدير بالذكر هنا أن خبرة كاتب الرواية باترك زوسكند بتأليف السيناريو جعلت من السهل على مؤلف الفيلم إجتزاء مشاهد كاملة من الرواية حيث أنها كانت مكتملة على المستوى السينمائى و نذكر مثالا على ذلك اللقاء الاول بين جان باتست غرنوى وبالدينىالعطار الباريسى المخضرم هذا المشهد فى الروايه مكتمل العناصر السينمائية فتم نقله كما هو الى السيناريو . و هنا و فى معرض حديثنا عن سيناريو الفيلم نستطيع أن نحكى حكاية الفيلم بأكثر مما كنا نستطيع سرد الاحداث فى الجزء الخاص بالرواية .

يبدأ الفيلم بشاب مسجون فى زنزانة يتقدم الى المحاكمة ويصدر ضده حكم قاسى بتكسير عظامه كلها ثم شنقه حتى الموت ويقرأ الحكم وسط الجموع الغفيرة المؤيدة لاعدامه و الشاب الضئيل لاحول له منكمش على ذاته . وهنا يأخذنا الراوى الذى سيصاحبنا الى النهاية فى رحلة امنذ بداية المولود جان باتست غرنوى الذى ولد فى حلقة السمك والذى نطقت حنجرته بصراخ أودى بأمه الى حبل المشنقة لآن المحيطين فى السوق أدراكوا أنها رمت به مع أحشاء السمك تاركه أياه للموت .
لكن جان باتست عاش و سلمته الكنيسة لملجأ مدام "جايارا" ليكبر وتظهر موهبته الخارقه فى تحديد روائح كل ما حوله تراب وماء وحيوان وخشب وحديد واشخاص واماكن وليبدوا عاجزا عن التواصل مع البشر حيث أن لغة التخاطب الوحيدة التى يجيدها مع محيطه هى لغة الروائح . ثم تبيعه مربيه الملجأ الى الدباغ "غريمال" , وتقتل بعد بيعه للرجل مباشرة . يعيش بعد ذلك جان باتست ويعمل عند الدباغ ويتعلم دبغ الجلود ويزداد وعيه بما حوله و بموهبته الشمية الى أن يقوده حظه العاسر لإرتكاب أول جريمة قتل فقد قتل فتاة تبيع البرقوق وحاول الاحتفاظ برائحتها دون جدوى. وعندما أرسله "غريمال" الى العطار القديم "بالدينى" أدرك جان باتست أن دكن العطارة هو المكان الامثل لامثاله فسعى لكسب ود العطار "بالدينى" بتمكينه من تصنيع عطر "الحب والروح" . اشترى بالدينى جان باتست من الدباغ وجعله يؤلف له عطورا اسيريه روجت له تجارته وتعلم منه جان باتست تقطير الروائح غير أنه لم يستطيع الاحتفاظ بالروائح التى يريد الاحتفاظ بها فسافر جان الى جراس ليبدأ رحلة التعلم والقتل معا . وهناك قتل ثلاثة عشر فتاه وقطر رائحتهن وصنع عطرا يأخذ الالباب ويجعل الجميع عبيدا له. عاد جان باتست الى مسقط رأسه بعد أن عثر على هوية لذاته وسكب العطر السحرى على جسده فما كان من الناس الى أن إنجذابوا اليه وتجمهروا حوله ثم أجهزوا عليه وأنهوا جسده كليا ليختفى جان باتست غرنوى فى بطونهم وتمر أيام قليلة وتختفى الذكرى كليا وتبقى زجاجة العطر المكسورة تجود بأخر قطرة فيها .
بدأ السيناريو هنا حكاية جان باتست من لحظة نطق الأعدام ومن ثم العودة الى الوراء من خلال الفلاش باك حتى يوم مولد البطل فى حلقة السمك . وقد إستخدم تقنية الراوى ليقرب المشاهد من روح الروايه وإيجاد معادلا لبعض الافكار التى تعجز الكاميرا وحدها عن ترجمتها . وحذف السيناريو من الروايه سنوات الجبل التى عاشها جان باتست والتجارب التى أجريت عليه عند" إسبيناز" العالم الذى اتخذ من جان باتست حقلا لإثبات نظرياته . كما تم عن قصد أو غيرقصد التخفيف من الخلفيات الدينيه و من بحث جان باتست عن معنى الإله وإعادة إنتاج مخلص للعالم عند معالجة الفبلم وأنا غير لائم على السيناريست ذلك لأن إيجاد إطار أو شكل واحد للفيلم يحتم أحيانا المرور سريعا على بعض الجوانب بغير التعمق فيها.

وهنا يستشعر بعض المشاهدين متزوقى الأدب والأدباء بالاحرى أنه تم تفويت قيمة أدبية ما . ولكن فى الحقيقة ان الروايه يمكن أن تعالج بأكثر من طريقه وللسيناريست والمخرج إختيار وجهة النظر التى ستعطى للفيلم حيويته . وكم من أديب خرج من هذا الفيلم وغيره ليقول لى أن الروايه كانت أجمل وأعمق . فأجاوبه : الروايه اجمل وأعمق لآن بها بعض منك , أنت صنعت جزءا من تصورك لها أما الفيلم فلا مجال لتصور شىء غير ما يقدمه الفيلم ذاته . وبشكل عام فأن الفيلم استطاع بجدارة ومغامرة تجسيد تلك الروايه على الشاشة من خلال صورة فيلمية جميلة ومعادلات بصرية كانت أقرب ما يكون للرواية , وقد استطاع الممثل الشاب "بى ويشو" أن يقنع المشاهد بأنه جان باتست بأدائه وحركاته كما ان وظهور "داستان هوفمان" فى دور العطار بالدينى اضاف الى الفيلم جمالا خاصا .

استحضر المخرج من خلال الديكورات الهائله فرنسا فى القرن الثامن عشر بشوارعها ونهرها وأناسها . واستخدم الجرافيك بشكل غير مفرط فى التعبير عن بعض المشاهد وإعطائها حيوية عطرية أخازة كما فى مشهد بالدينى عندما تشمم عطر "الحب والروح" بعد أن حسنه جان باتست بعبقريته العطرية .

أما موسيقى الفيلم فجاءت متناغمة مع أحداثه الدراميه حالمة فى مشاهد الطبيعة والعطور الجميلة حادة فى مشاهد القتل والتوتر مصحوبة بغناء أوبرالى فى بعض المشاهد لتوصيل حالة ما .
و فى النهاية يبقى هذا الفيلم تجربة جريئة حاولت بإخلاص وإن فاتها ما فاتها على ترجمة هذه الروايه ومن يدرى لعلها فتحت المجال لتجارب أخرى تحاول ترجمة رواية العطر ولعلا جيلا من صناع السينيم ايستطيعون ترجمة العطور الى عطور حقيقية فهناك بحثا يقدم سينما الغد على أنها ستعتمد على الرائحه لتجسيد المشاهد حيث ستنتشر فى القاعات على نفس شكل إنتشار سماعات الصوت مضخات تضخ الروائح التى تعتمد على خلط مركبات معينة لإصدار الروائح المطلوبة للمشاهد ، وحتى هذا الحين سننتظر تجاربا سينمائية مبدعة ومخلصة تحاول إيجاد معادلات بصرية لما يدور فى خيال الادباء
.

5 comments:

كراكيب نـهـى مـحمود said...

تصفيق حاد على اختيارك لرواية العطر للحديث عنها
قراتها وسحرتني وندمت لاني لم الحق الفيلم
شكر لك
تعرف اني حتى رهبت من الكتابة عن مشاعري نحو هذه الرواية ولم اعرف لما حتى قرات ما كتبته انت
كيف نصور الرائحة كيف نحولها حروف
محمد كل سنة وانت طيب
وجميل دايما وادعيلي اتفرج على فيلم العطر قريب

محمد رفيع said...

كل سنة وانت طيبة يا نهى وربنا يححقلك كل اللى فى بالك والفيلم عاندى على الكمبيوتر ممكن ابعتهولك

كراكيب نـهـى مـحمود said...

فعلا يا محمد
ياااه الله يخليك اتنبسطت جدا انه عندك
على فكرة انا متشكرة جدا على حضورك يوم الساقية يعدت بك جدا
انت صديق طيب وجميل مش عشان الفيلم لا لا لا الموضوع اكبر من كده
كل سنة وانت طيب

fawest said...

أخيرا بوست
على العموم
فى ناس بحس أنى عاوز أعرفهم من قرائتهم فى تماثلها مع قرئاتى و كتابتهم مع كتاباتى
العطر مع انى لم اقرئها لكنى حاسس انها بعظمة الحب فى زمن الكوليرا
ثم كتاباتك على المدونة القليلة
وأخيرا مجموعتك مع سهى و المرحوم محمد بكر


كل دة بيقول انت حد عاوز اعرفة عن قرب

محمد رفيع said...

فاوست انا متشكر جدا على كلماتك ويشرفنى اعرفك اكتر ونتقابل انا فعلا مقل فى الكتابة فى المدونة بس الفترة اللى الجاية هركز اكتر اشكرك