تلك سدرة منتهاى .... عمرى ومضة فيك


Thursday, October 18, 2007



من الذى حصل على الآخر سكورسيزى ام الأوسكار

عندما أخبرنى أحد الأصدقاء بالهاتف وكنت فى الشارع ان" سكورسيزى "على شاشة التلفزيون يتسلم الأوسكار قلت له جملة واحدة "مبروك للأوسكار" وبعد تلك المكالمة القصيرة استدعت ذاكرتى على الفور تاريخ مارتن سكورسيزى الذى هو بالفعل كان يستحق هذه الجائزة منذ ما يزيد على عشرين عاماً
لكن الجوائز احياناً تكون كالرياح تأتى بما لا يشتهى أحد . وقد عبر عن ذلك "مارتن سكورسيزى" نفسه عندما قال فى حواره مع المخرج الأمريكى "سبايك لى" " انا من أبناء الظل " وكان يشير إلى إنه ينتج فناً خارج قواعد مؤسسة إنتاج الأفلام داخل هوليود وهذا يجعله يقبع فى الظل بالنسبة للجوائز او الإشادة بأعماله الفنية . لكن مخرج بهذا الحجم وهذا المنجز المهم فى تاريخ السينما كان لا يمكن تجاهله سواءً دخل إلى القواعد ام خرج عليها . وتاريخ سكورسيزى مع الأوسكار طويل يمتد إلى 27عاماً إذ كانت أفلامه دائماً تٌرشح بجدارة لنيل الجائزة وكثيراً ما حصل أحد أفلامه على جائزة التمثيل او المٌنتير ولكن لا تذهب اليه الجائزة كأحسن إخراج . كما حدث عام 1981 عندما أخرج فيلماً عن المٌلاكم الأمريكى "جاك لاموتا" اسماه الثور الهائج" والذى لعب بطولته "روبرنت دى نيرو" وقد حصل الفيلم على جائزتى أحسن تمثيل وأحسن مونتير ولم يحصل سكورسيزى على أفضل إخراج وتكرر هذا المشهد طوال تلك السنوات حتى ان ترشيحات الأوسكار لأفلام سكورسيزى تصاعدت بشكل مضطرد جداً فمثلاً فى عام 2002 حصل فيلمه الشهير " عصابات نيويورك" على عشرة ترشيحات للأوسكار ثم فى عام 2004 أحد عشر ترشيحاً للأوسكار عن فيلم "الطيار" فى سابقتين غاية فى الغرابة وهو ان تحصل أفلامه على هذا الكم الهائل من الترشيحات ويحصل هو نفسة على خمسة ترشيحات للاوسكار وبرغم ذلك تكون الجوائز بعيدة عنه حتى ان محبى هذا المخرج وبالتأكيد هم غالبية ساحقة صاروا يقولون ان مارتن سكورسيزى أكبر من الأوسكار وان تجاهل الأوسكار لسكورسيزى يُعرض الجائزة لفرض مصداقيتها الفنية.
وعلى اية حال فأن تاريخ السينما ليشهد له انه لفت الأنظار منذ زمن بعيد ولم ترتفع عنه تلك الأنظار إلى ان حصل على اوسكاره الأخير والذى قال فى حفل تسلمه "ارجو ان تتأكدوا من محتوى المظروف" فى إشارة ضاحكة لإبتعاد الأوسكار عنه طوال هذه السنوات لكنه بدماثة وتواضع شديد ين قال "انا منفعل ومتأثر جداً" وكانت ملامحه الصادقة تشى بتأثره الشديد.

تاريخ حافل وجحافل من الجوائز تذهب للأخرين.
فى مهرجان كان السينمائى عام 1973تقدم مارتن سكورسيزى بفيلم مبتكر ومنفذ بدقة شديدة وهو فيلم " شوارع رئيسية " لفت هذا الفيلم الأنظار لما فيه من أسلوب جديد وثورى فى تناوله وكان الفيلم هو الخامس لمخرجه الإيطالى الأمريكى "مارتن سكورسيزى" وعندها شعر السينمائيون ان هناك مخرج كبير يدخل الساحة وسارعوا بمشاهدة الأربعة أفلام التى بسقت "شوارع رئيسية" ليتأكدوا ان لهذا المخرج اسلوب خاص يميزه بين ابناء جيله الذى ضم أسماء كبار مثل "فورد كوبولا" و"سبيلرج" وكان فيلم "سائق التاكسى" عام "1976" علامة فارقة ومبتكرة جداًإستطاع فيها إثبات اسلوبه الخاص فى الإخراج وأضاف أداء "روبرت دينيرو" لهذا الفيلم روعة لها مذاق فريد. وقد فاز هذا الفيلم بجائزة السعفة الذهبية فى مهرجان كان لنفس العام. ولم يشأ "سكورسيزى" لعقد السبعينات ان ينتهى حتى يطبع بصمته ويجد له موضع فى عالم المؤسسين . فأخرج فيلم "نيويورك نيويورك" عام 1973"والفالز الأخير" عام 1978.
واستهل " سكورسيزى" عقد الثمانينات بفيلم "الثور الهائج" الذى حصل عنه الممثل "روبرت دينييرو" على أوسكار أفضل تمثيل وقد وُ صف هذا الفيلم الذى صُور بالأبيض والأسود بأنه أعظم فيلم اُنتج فى عقد الثمانينات وذلك فى إستقراء أعدته مجلة" المشهد والصوت" التى تصدر فى بريطانيا . وبالتعاون مع "روبرت دينيرو" مرة اخرى أخرج عام 1983 فيلم "ملك الكوميديا" الذى اشاد به النقاد وتبعه بفيلمين فى غاية الروعة وجمال الصورة السينمائية هما " بعد إنقضاء الساعات " و "لون المال" وكالعادة آبى "سكورسيزى" على الثمانينات ان تمضى دون فيلم من العيار الثقيل وكان ذلك عام 1988من خلال فيلم "الإغواء الأخير للمسيح" وبغض النظر عن الضجة الواسعة التى اُثيرت حول هذا الفيلم والمطالبة الشرسة بخروجه من كل المهرجانات وتحريمه من قِبل الكنيسة الكاثوليكية رغم ان الرواية المأخوذ عنها الفيلم صدرت قبل تاريخ إنتاج الفيلم بخمسة وثلاثين عاماً دون ان تحدث ضجة شبيهة .
تبدت فى هذا الفيلم روعة الكادر السينمائى عند " سكورسيزى" وإجادته للعب بعمق الصورة والإضاءة الغير مباشرة والناعمة كأدوات توصيل مبهرة بصرياً ووجدانياً فى آن .
يفتتح ايضاً "مارتن سكورسيزى" عقد التسعينات بفيلم العصابات الشهير " أولاد جيدون" لتتبدى مقدرته العالية على صنع العنف الجميل فمن خلال كادر سينمائى _ منمنم بعناية يطل علينا عنف الشخصيات ومن خلال جو العصابات الدامى يقدم لنا نسق خاص من العلاقات الشخصية التى لا تملك فى النهاية مع اعترافك بدمويتها إلا ان تصفها بالجميلة او با جيدة كما وصفها هو ذاته وفى التسعينات ايضاً كان هناك فيلمان فارقان تبدى فيهما الميل الشديد للإجادة والإهتمام بالتفاصيل وعمق الصورة وعمل عدة مستويات من الخلفية التى تظهرخلف الاحداث لتقبع تلك التفاصيل فى الذاكرة حتى ما إذا تم إستخدام أحد هذه العناصر فيما بعد فى مشهد رئيسى يُشعر المشاهد بمدى تناسق ذلك دون ان يدرى على وجه التحديد مصدر هذا الإتقان.
قدم واحد اً مميزاً فى العام 1995 وهو فيلم " كازينو" والآخر " إظهار الموتى" عام 1999. وكما عودنا هذا المخرج يفتتح العقد بأفلام العيار الثقيل فها هو عام 2002 يستقبل الألفية الجديد بفيلم " عصابات نيو يورك" ليُقدم تحفة جديدة لتاريخ السينما ذلك الفيلم الذى بلغ من الإتقان قول أحد الأصدقاء ان كل كادرفى هذا الفيلم يصلح تابلوه لما فيه من توازن واعى للحجوم والألوان . ويقدم هذا الفيلم شخصيات فوق طبيعية مثل شخصية الجزار التى جسدها " دانيال دى لويس " تلك الشخصية الجبارة التى تمزج بين العنف والدموية الشديدين والضعف الإنسانى والحنو الشديدين ايضاً فى مزيج فريد , هذا فى مقابل "رونالد د يكابريو" العائد للإنتقام من قاتل أبيه هذا لنرى صراعاً ملحمياً وكأنه أحد صراعات الأوديسة العظيمة هذا على خلفية سياسية صادمة عن تاريخ نيويورك الدموى والعنصرى وقدم "مارتى" كما هو مشهور بين أصدقاءه فى فيلم آخر وهو "الطيار" فى عام 2004عن قصة حياة الملياردير الأمريكى"هواردهيوز"وجاء ذلك الفيلم مميزاًبين ارتال من أفلام السير الذاتية التى أصبحت "موضة" فى تلك الأونة فقد ظهرت العديد من الأفلام التى تتحدث عن كبار نجوم الغناء والسينما والسياسة والفن والحرب . لكن "سكورسيزى" حمل هذه السيرة "لهيوز" بهممومه هو وأفكاره ومعتقداته وتسائلاته التى تؤرقه, فجاء الفيلم دسماً معبأ بالقضايا وفاز الفيلم فى بريطانيا بجائزة "بافتا" وحصل كذلك ترشيحاً للأوسكار حصل منها على خمس جوائز وتوج "سكورسيزى" هذا المشوار بفيلمه الأخير " الراحلون" والذى فاز به بالتمثال الذهبى الذى طالما عانده.

"الراحلون" فيلم الأوسكار:
بعد عرض فيلم "الطيار" الفيلم السابق لهذا الفيلم أعلن "مارتن سكورسيزى" ان فيلمه القادم سيكون إعادة إنتاج لفيلم "شئون صغيرة" الذى لاقى نجاحاً باهراً عند قدومه من هونج كونج وهكذا استند فيلم الراحلون على الفكرة وعاد بمخرجنا لجو العصابات المحبب إلى قلبه والذى أجاد تصويره فى العديد من أفلامه . لكن ذلك المفتون بنيويورك وشوارعها حديثاً وقديماً نقلنا هذه المرة إلى "بوسطن" ليحكى لنا حكاية شرطى يتسلل داخل عصابة ويعلو شأنه داخلها ولص يتسلل إلى صفوف البوليس ويصبح مسؤلاً عن كشف الجواسيس داخل جهازالشرطة ويدور الجميع فى فلك زعيم العصابة المخيف الذى لا يرحم أى خائن ومن خلال هذا الإختراق المزدوج
نرى مباراة فى الأداء بين "ليوناردو ديكابريو" الشرطى المتسلل للعصابة و"مات ديمون"
اللص / الشرطى وتسير الشخصيات الى حتفها فى سباق محموم للكشف عن الهويات الحقيقية والمخيفة .
يستشعر الطرفان "العصابة والشرطة" ان هناك إختراق جاسوسى داخل كل منهما مما يصاعد من التوتر فى الأحداث غير ان فى قلب كل الصراعات يقبع "فرانك كاستيلو" رئيس العصابة والذى يؤدى دوره الممثل الكبير "جاك نيكلسون" ذو الأداء الفريد لشخصية معقدة تود لو تطلق عليها مُسمى مثل "الزعيم القاتل الفاتن" بمثل تعقيد ذلك المسمى يقدم لنا "نيكلسون"شخصية "فرانك كاستيلو".
قدم "سكورسيزى" سرداً سينمائياً فريداً كعادته موغلاً فى عمق وجمال الصورة السينمائية هذا مع تناسقها المعهود وحركة كاميراته بإيقاع الفيلم اللاهث لتلتقط عنايته بالتفاصيل الدقيقة وتوتر الشخصيات وازماتها الضا رية وصراعاتها الدامية فى توليفة مختومة بختم مخرج مخضرم يعرف تماماً كيف يقدم العنف بشكل يورطك فى التعاطف معه من فرط تقديم جمال بصرى مميز .
ما بعد الأوسكار:
أعلن سكورسيزى كعادته عن مشروع فيلمه القادم وهو بعنوان "صعود روزفلت" الذى تتناول قصته الرئيس الأمريكى"روزفلت" والمأخوذ عن كتاب للكاتب "إدموند موريس" بعنوان "صعود ثيودور روزفلت" وأعد له السيناريو السيناريست "نيكولاس ماير" ويتناول الفيلم السنوات الأولى فى حياة الرئيس السادس والعشرين للولايات المتحدة وكيف تنامى وعيه السياسى منذ كان فتى مدلل فى أول حياته إلى سياسى مرموق فى نيويورك حتى تقلد مناصباً
عسكرية هامة فى الحرب التى دارت بين الولايات المتحدة و أسبانيا فى القرن التاسع عشر.
بقلم : محمد رفيع مجلة الهلال من شهرين فاتوا

Sunday, October 7, 2007

عطر الرواية و عطر الفيلم







عطر الرواية و عطر الفيلم

صدرت رواية العطر فى أوروبا سنة 1985 و هى لكاتبها الالمانى باتريك زوسكند و منذ ذلك الحين ورغم الشهرة الواسعة للرواية إلا أن السينمائين وجدواصعوبة بالغة فى وضع تصور عن عمل سينمائى مقتبس عن هذه الرواية . و السبب لمن قرأ الرواية واضح جدا . إذ إنه يتمثل ليس فقط فى مستوايات الرواية العديدة ولا فى خلفيتها الفلسفية فحسب و إنما ببساطة فى صعوبة إيجاد معادل بصرى موضوعى لهذا الذخم الشديد من الروائح و العطور وتلك الموهبة الشمية الغير مسبوقة . ولكن و بعد عشرون عاما من صدور الرواية أقدم المخرج توم تويكر
على هذه المغامرة و سنحاول هنا الاشارة إلى ما نجح فى تصويره لنا و ما اخفق فى إيجاد معادلات دلاليه له .


عطر الرواية

لم يعرف الكاتب الالمانى المولود على حواف جبال الالب "باتريك زوسكند "على مستوى واسع إلا عندما ألف مسرحيته "عازف الكونترباس" التى ظهرت فى فصل واحد عن عازف متوحد مع الته الموسيقية فى مونو دراما إشكالية التوحد مع الذات و إختصارالعالم الى غرفة او مكان ضيق. و فقد الاتصال مع الاخر و التركيز المطلق على الوحدة الانسانية . ثم جاءت روايته " العطر " لتنال شهرة واسعة و يتم ترجمتهاإلى ما يزيد عن عشرين لغة و يباع منها 15 مليون نسخة . و قد قال عنها النقاد أنها بمثابة رد اوربى على زخم الواقعية السحرية القادم من امريكا اللاتينيه . والرواية ذات ابعاد فلسفية متعددة فى وصفها الانسان ككائن وحشى لا تقل وحشيته حتى لو تستر بالحضارة الى سعى الانسان الدائم للسيطرهعلى البشرو كأنه يريد أن يستعير سطوة الاله أو يصنعها , هذا كله على خلفية إجتماعية و سياسية يعبر فيها الكاتب عن رؤيته.
الروايه على قدر بساطتها فى التناول فهى بالغة العمق و مخيفة فى بعض أجزائها وتجعلك تفذكر طويلا بعد الانتهاء من قرأتها . والثابت فى أغلب الروايات التى نالت شهرة عالميةهو احتوائها على كم معلوماتى و معرفى كبير وهذه ايضا سمة من سمات رواية العطر . فالكاتب هنا دخل بنا الى عالم العطور و الروائح و الى دهاليز مهنة العطارة حتى أنك تتسأل هل كان باتريك زوسكند عطارا فى يوم ما أم عازف كنترباس كما فى مسرحيته السابقه ولكن هكذا سمة الادباء الكبار. والروايه تدعو للتأمل فى مفرادات الحياه . فبطل الروايه جان باتست غرنوى الذى ولد بلا رائحة والذى تمحورت







حياته حول محاولة إيجاد رائحة خاصة به يدعو للتأما فى ماهية الانسان الحقيقية وكيف أن جان باتست هذا شعر ان رائحة الانسان تمثل هويته بشكل من الاشكال . وان الولادة بلا رائحة هى ولادة بلا هوية . وكيف أنه فى رحلة البحث عن عن الهوية / الرائحة إعتدى على هويات وأجساد فقط ليسطو على ارواحهن أو بالاحرى روائحن حيث كانت كل ضحاياه من العذارى الجميلات والذى أعماه بحثه المضنى عن رائحة / هوية حتى عن جمالهن . ثم لم يعد جان باتست غرنوى قانعا برائحته / هويته التى صنعها لنفسه بل اصبح يتوق لتصنيع رائحة / هوية تجعله محبوبا بل معبودا مطلق القدرة والتأثير على البشر هؤلاء الذين انكروا عليه هويته فى السابق . وها هو يستطيع بهوية / رائحه القديسين و الملائكة أو الارباب التى صنعها لنفسه يجعل من ألد أعداءه عاشق له بل عبد من عبيده وها هو يهرب بعطره السحرى الذى ألفه من روائح العزراوات يحول قضية شنقه الى مسرحا من الحب . حبا لايعرف فوارق سنية ولا طبقية ولا عنصرية لكن جان لم يقنع بذلك فسار الى حتفه الى مكان مولده ليقنع أو لا يقنع فى هذه الحالة بأن يكون خبزا للجائعين . هل إنتحر جان باتست هل أطعم نفسه للفقراء هل أراد أن يرتوى من الحب فلم يروه غير أن يوزع جسده على الناس البسطاء . هل أراد أن ينهى حياته بنفس الوحشية التى عاش بها . ذلك القاتل المنذور للقتل بلاوعيه قبل وعيه . فهو أنهى حياة والدته بصرخة حنجرة لترسل الى المشنقة فور اكتشاف الناس لوجوده وعندما ترك مدام "جايارا" قتلت بعدها بدقائق كما مات الدباغ "غريمال" عندما رحل عنه جون باتست وهكذا حدث مع العطار "بالدينى" عندما سافر جان الى جراس فالموت نذيرك يا باتست أينما حللت.
وفى النهاية ربما تحتاج رواية العطر الى دراسة تفصيلية أكثر عمقا لنتمكن من الآمساك بكل جوانبها . ولكن ما قصدناه فى هذه المراجعة السريعة للروايه ذاتها هو تصوير كيف أن الرواية صعبة للغاية فى محاولة تحويلها إلى عمل سينمائى .




عطر الفيلم

"كيف يمكن أن تجد معادلا بصريا لعطر ما , بل أكثر من ذلك لآلاف العطور؟" . أتخيل أن سؤالا مشابها كتبه السناريست أندرو بيكين ووضعه أمامه ثم استغرق فى التفكير لساعات قبل أن يبدأ فى ترجمة هذه الرواية . وأتخيل أيضا أن المخرج المغامر توم تويكر لم يجد إلا لقطة لأنف كبير يخرج من الظلام فيملأ الشاشة كلقطة افتتاحية يوحى بها للمشاهد ان ما سيقدمه له هو بالآحرى عالم روائحى و ليس بصرى . و حاول المخرج و السناريست الاقتراب من الروايه إلى أقصى درجة . فيكاد يكون و على مستوى أحداث الروايه لم يتم حذف إلا بعض الاحداث التى كانت ستمثل عبأ على إيقاع الفيلم ومثال على ذلك التجارب العلمية التى أجريت على جان باتست بعد قضاؤه سبع سنوات فى الجبال. و الجدير بالذكر هنا أن خبرة كاتب الرواية باترك زوسكند بتأليف السيناريو جعلت من السهل على مؤلف الفيلم إجتزاء مشاهد كاملة من الرواية حيث أنها كانت مكتملة على المستوى السينمائى و نذكر مثالا على ذلك اللقاء الاول بين جان باتست غرنوى وبالدينىالعطار الباريسى المخضرم هذا المشهد فى الروايه مكتمل العناصر السينمائية فتم نقله كما هو الى السيناريو . و هنا و فى معرض حديثنا عن سيناريو الفيلم نستطيع أن نحكى حكاية الفيلم بأكثر مما كنا نستطيع سرد الاحداث فى الجزء الخاص بالرواية .

يبدأ الفيلم بشاب مسجون فى زنزانة يتقدم الى المحاكمة ويصدر ضده حكم قاسى بتكسير عظامه كلها ثم شنقه حتى الموت ويقرأ الحكم وسط الجموع الغفيرة المؤيدة لاعدامه و الشاب الضئيل لاحول له منكمش على ذاته . وهنا يأخذنا الراوى الذى سيصاحبنا الى النهاية فى رحلة امنذ بداية المولود جان باتست غرنوى الذى ولد فى حلقة السمك والذى نطقت حنجرته بصراخ أودى بأمه الى حبل المشنقة لآن المحيطين فى السوق أدراكوا أنها رمت به مع أحشاء السمك تاركه أياه للموت .
لكن جان باتست عاش و سلمته الكنيسة لملجأ مدام "جايارا" ليكبر وتظهر موهبته الخارقه فى تحديد روائح كل ما حوله تراب وماء وحيوان وخشب وحديد واشخاص واماكن وليبدوا عاجزا عن التواصل مع البشر حيث أن لغة التخاطب الوحيدة التى يجيدها مع محيطه هى لغة الروائح . ثم تبيعه مربيه الملجأ الى الدباغ "غريمال" , وتقتل بعد بيعه للرجل مباشرة . يعيش بعد ذلك جان باتست ويعمل عند الدباغ ويتعلم دبغ الجلود ويزداد وعيه بما حوله و بموهبته الشمية الى أن يقوده حظه العاسر لإرتكاب أول جريمة قتل فقد قتل فتاة تبيع البرقوق وحاول الاحتفاظ برائحتها دون جدوى. وعندما أرسله "غريمال" الى العطار القديم "بالدينى" أدرك جان باتست أن دكن العطارة هو المكان الامثل لامثاله فسعى لكسب ود العطار "بالدينى" بتمكينه من تصنيع عطر "الحب والروح" . اشترى بالدينى جان باتست من الدباغ وجعله يؤلف له عطورا اسيريه روجت له تجارته وتعلم منه جان باتست تقطير الروائح غير أنه لم يستطيع الاحتفاظ بالروائح التى يريد الاحتفاظ بها فسافر جان الى جراس ليبدأ رحلة التعلم والقتل معا . وهناك قتل ثلاثة عشر فتاه وقطر رائحتهن وصنع عطرا يأخذ الالباب ويجعل الجميع عبيدا له. عاد جان باتست الى مسقط رأسه بعد أن عثر على هوية لذاته وسكب العطر السحرى على جسده فما كان من الناس الى أن إنجذابوا اليه وتجمهروا حوله ثم أجهزوا عليه وأنهوا جسده كليا ليختفى جان باتست غرنوى فى بطونهم وتمر أيام قليلة وتختفى الذكرى كليا وتبقى زجاجة العطر المكسورة تجود بأخر قطرة فيها .
بدأ السيناريو هنا حكاية جان باتست من لحظة نطق الأعدام ومن ثم العودة الى الوراء من خلال الفلاش باك حتى يوم مولد البطل فى حلقة السمك . وقد إستخدم تقنية الراوى ليقرب المشاهد من روح الروايه وإيجاد معادلا لبعض الافكار التى تعجز الكاميرا وحدها عن ترجمتها . وحذف السيناريو من الروايه سنوات الجبل التى عاشها جان باتست والتجارب التى أجريت عليه عند" إسبيناز" العالم الذى اتخذ من جان باتست حقلا لإثبات نظرياته . كما تم عن قصد أو غيرقصد التخفيف من الخلفيات الدينيه و من بحث جان باتست عن معنى الإله وإعادة إنتاج مخلص للعالم عند معالجة الفبلم وأنا غير لائم على السيناريست ذلك لأن إيجاد إطار أو شكل واحد للفيلم يحتم أحيانا المرور سريعا على بعض الجوانب بغير التعمق فيها.

وهنا يستشعر بعض المشاهدين متزوقى الأدب والأدباء بالاحرى أنه تم تفويت قيمة أدبية ما . ولكن فى الحقيقة ان الروايه يمكن أن تعالج بأكثر من طريقه وللسيناريست والمخرج إختيار وجهة النظر التى ستعطى للفيلم حيويته . وكم من أديب خرج من هذا الفيلم وغيره ليقول لى أن الروايه كانت أجمل وأعمق . فأجاوبه : الروايه اجمل وأعمق لآن بها بعض منك , أنت صنعت جزءا من تصورك لها أما الفيلم فلا مجال لتصور شىء غير ما يقدمه الفيلم ذاته . وبشكل عام فأن الفيلم استطاع بجدارة ومغامرة تجسيد تلك الروايه على الشاشة من خلال صورة فيلمية جميلة ومعادلات بصرية كانت أقرب ما يكون للرواية , وقد استطاع الممثل الشاب "بى ويشو" أن يقنع المشاهد بأنه جان باتست بأدائه وحركاته كما ان وظهور "داستان هوفمان" فى دور العطار بالدينى اضاف الى الفيلم جمالا خاصا .

استحضر المخرج من خلال الديكورات الهائله فرنسا فى القرن الثامن عشر بشوارعها ونهرها وأناسها . واستخدم الجرافيك بشكل غير مفرط فى التعبير عن بعض المشاهد وإعطائها حيوية عطرية أخازة كما فى مشهد بالدينى عندما تشمم عطر "الحب والروح" بعد أن حسنه جان باتست بعبقريته العطرية .

أما موسيقى الفيلم فجاءت متناغمة مع أحداثه الدراميه حالمة فى مشاهد الطبيعة والعطور الجميلة حادة فى مشاهد القتل والتوتر مصحوبة بغناء أوبرالى فى بعض المشاهد لتوصيل حالة ما .
و فى النهاية يبقى هذا الفيلم تجربة جريئة حاولت بإخلاص وإن فاتها ما فاتها على ترجمة هذه الروايه ومن يدرى لعلها فتحت المجال لتجارب أخرى تحاول ترجمة رواية العطر ولعلا جيلا من صناع السينيم ايستطيعون ترجمة العطور الى عطور حقيقية فهناك بحثا يقدم سينما الغد على أنها ستعتمد على الرائحه لتجسيد المشاهد حيث ستنتشر فى القاعات على نفس شكل إنتشار سماعات الصوت مضخات تضخ الروائح التى تعتمد على خلط مركبات معينة لإصدار الروائح المطلوبة للمشاهد ، وحتى هذا الحين سننتظر تجاربا سينمائية مبدعة ومخلصة تحاول إيجاد معادلات بصرية لما يدور فى خيال الادباء
.